بسم الله الرحمن الرحيم
تُعلّمنا سورة طه القوة والعزة وكيف نستمدهما من الإيمان بالله تعالى.
من أسباب تنزيل سورة طه أنَّ المشركين قالوا إنّ القرآن ما نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا لشقائه. ولا شك أن مرحلة الدعوة في مكة كانت عصيبة وحرجة وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحده مع ثلة من المؤمنين أمام المشركين ذوي النفود والقوة.
لكنَّ سورة طه تعلمنا أنَّ القوة الحقيقية هي المستمدة من الله تعالى والإيمان به. سورة طه تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ويوحي فيها الله إليه أن ينظر في الأمم السابقة وكيف أعطى الله القوى لأفراد بسيطين مثل موسى وهزم به طغاة عصره.
تبدأ السورة الكريمة بحرفين نورانيين “طه” وكأنها تقع على السمع قسماً من الله تعالى بما يُخبر عنه في السورة. فيقول لرسوله الكريم “ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” وهذه الآية الكريمة تؤكد لنا مفتاح الخطاب هنا وأن المخاطب الرئيسي هو الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيها مواساة وتعليم له فيما يجب فعله.
ثم تأنينا آية بعد بعضة آيات:
“الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى” وفي ذلك تأكيد من جديد على القوة والسيطرة والهيمنة على كل شيء في الوجود.
ثم تأتينا الآية:
“وهل أتاك حديث موسى”
هنا الآن، نبدأ الحديث عن قصة موسى عليه السلام، وبما أنَّ السورة افتُتحت بما يتعلق بالقوة، فالقصد إذن أنَّ هذه القصة هنا تعلمنا موازين القوى وأيهما يرجح في الحياة: اهي القوة المستندة إلى الإيمان بالله أم القوى المادية.
وفي ذلك أمر نقف عنده قبل المضي قدماً. ألم تتكرر قصة سيدنا موسى في سور أخرى؟ لماذا التكرار؟ في الواقع لأن القصة كل مرة تخدم مفتاح السورة ذاتها. فهنا نتحدث عن القوة وفي سورة أخرى لعل القصد التركيز على أمر آخر فيسوق الله تعالى لنا القصة ذاتها لكن بهدف مختلف.
نتابع في قصة سيدنا موسى عليه السلام:
إذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى
فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
القوة من جديد تتجلى في كلام الله تعالى: إنني أنا الله. يوجد هنا تأكيد باستخدام إنَّ وهناك نون الوقاية وهناك الياء التي تعود على المتكلم. “الله” تأكيد قوي صريح لا جهالة معه. ثم تأكيد آخر “لا إله إلا أنا” والتأكيد مرة أخرى على “أنا”. لا أحد يتكلم بهذه الطريقة إلا من يتمتع بالقوة الحقيقية، بل إنه هنا رب القوة ورب المتجبرين في الأرض.
“فلا يصدنك عنها” هنا نهي بصيغة آمرة. والأمر هنا مبني على القوى.
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى
تفيد الآيات هنا أنَّ سيدنا موسى عليه السلام بدأ باكتساب القوة وأولها الإيمان بالله. فلم يُذكر هنا أن موسى تردد وقال مثلاً: كيف لي أن أعرف أنك ربي؟ ومن هو ربي؟ فلا شك إذن أن سيدنا موسى عليه السلام كان يعلم في السابق بفطرته أنَّ للعالم رب فعندما حدث اللقاء غير المتوقع له، لم يستغرب فبدأت هنا الثقة بالله تعالى.
وسيدنا موسى عليه السلام يعلم من هو فرعون ويعلم بطشه وجبروته، وكيف للجبار المدعي للألوهية ألا يكون قوياً من وجهة نظرنا الدنيوية؟
لو كنا في تلك الأيام وبلغنا أن موسى سيذهب إلى فرعون لكي يهديه إلى الصراط المستقيم، وقتها لخطر ببالنا أنه سيقول لفرعون “يا سيدي يا مولاي أنت ربيتي وانا أكن لك المحبة وأخشى أن تدخل النار واريد أن أساعدك لتدخل الجنة الخ الخ الخ” ولعل هذا ما يخطر ببالنا لأن سيدنا ابراهيم عليه السلام هكذا خاطب والده “يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً” (سورة مريم)
دعونا نستمر في قراءة الآيات لنرى حجم القوة التي اكتسبها موس الفرد الضعيف من إيمانه وثقته بالله ولنرى إذا كان العطف والحنان هي اللغة التي سيستخدمها مع فرعون.
بعد أن علّم اللهُ موسى الآيات والمعجزات، قال له:
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
الآن يا موسى، أنت: 1) تؤمن بالله تعالى 2) تثق أن الله تعالى لن يضيَّعك 3) أراك الله الآيات والمعجزات ليطمئن قلبك البشري، الآن اذهب إلى فرعون إنه طغى.
لا شك أن موسى وقتها عرف غضب الله تعالى على فرعون وعرف أنَّ القوة هي ما يجب أن يستخدم في لقاء فرعون، لكن الله تعالى أراد إعطاء فرعون فرصة أخرى لعله يهتدي.
با لها من مهمة صعبة شاقة. أن تتحدث إلى رجل يدعي الألوهية ومعه آلات العذاب وأن تقول له إنه ظالم!!!
عندها تولى موسى المهمة ودعا الله تعالى أن يمده بقوة روحية ومادية:
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي
يَفْقَهُوا قَوْلِي
وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي
هَارُونَ أَخِي
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا
إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى
فموسى وحيد ويريد من يؤارزه فطلب أن يكون معه هارون. لم يكتف الله تعالى أن يقول له إن طلبه مجاب حالاً! بل ذكره الله تعالى أنه لن يضيّعه فإنه لم يضيّعه من قبل عندما كان رضيعاً ويذكّره بقصة أمه التي كانت خائفة أن يأتي جند فرعون ويذحوا وليدها! فنجاه الله تعالى.
ثم أعطاه خبراً عجيباً وساراً لموسى…
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
بل إن خلقك يا موسى كان لغاية إلهية!
وتأتي الرسالة:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى
قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
قوة عجيبة: لا تخافا. إنني معكما أسمع وأرى… فعندما يقف موسى يعلم أن الله موجود معه ويرى ويسمع وسيمنع عنهما أذى فرعون. هذه قوة جديدة لا يمكن لموسى أن يستفيد منها إلا إذا كان واثقاً بالله ومؤمنا به ومصدقاً لكلمات الله وآياته.
ذهبا إلى فرعون فسأله:
“قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى”
لو كان موسى ضعيفاً لقال: “يا مولاي رأيت ناراً حدث معي كذا وكذا وأعتقد أنه الله ربي وربك ووووووالخ” لكن موسى ليس ضعيفاً فقال:
“قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى”
إذن ربي وربك يا فرعون هو الذي اعطاك الجاه والسلطان وبقي عليك أن تعترف بذلك وأن تطلب لنفسك الهدى.
“قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى”
يسأله عن الأمم السابقة التي مضى عليها قرون من الزمن. ماذا كانت تعبد وماذا كانت تفعل؟
لم يجد موسى الإجابة فلو قال “لا أعلم” لكان ضعيفاً. لكنه قال بثبات وقوة
قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى
ثم يذكره بما أنعم الله على الأمم كافة ويدعوه مجدداً بكل أدب وقوة في آن واحد إلى الهداية والإيمان بالله تعالى:
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى
لكن فرعون يبقى فرعون طُمست بصيرته وركبه الغرور والاعتزاز بقوته الدنيوية الزائلة. فكيف لفرد بسيط ضعيف أن يقهر جبروته ومعه السحرة والجند والجاه والعتاد؟
ثم يتحدث بسخرية وسماجة بعد أن رأى المعجزات فيقول:
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى
هنا لنا وقفة. ماذا كان رد سيدنا موسى عليه السلام؟
لم يكن رده ضعيفاً فلم يقل ما رأيكم في المكان الفلاني؟
بل قال بقوة مستمدة بالإيمان بالله الذي يسمع ويرى:
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى
سبحان الله! سبحان من أنطق موسى وجعله ببساطة يتحدى فرعون وسحرته والقوم أجمعين فيأمرهم بأن المكان الذي أحدده أنا لا أنتم هو يوم الزينة فموسى يعلم أن فضيحة فرعون أمام الخلق قريبة!
ثم يبدو أن القوم وافقوا فرعون في السخرية من الموضوع كله فماذا قال لهم موسى؟ هل قال لهم: الله يسامحكم..غداً ترون.. أم قال لهم: هداكم الله يا جماعة ..أم قال لهم إنني حزين على عدم طاعتكم لأمر الله.. لم يقل لذلك بل قال:
“ويلكم!”
هذه الكلمة لا يقولها ضعيف فما بالك إن قالها شخص منفرد بنفسه لا يسانده أحد سوى أخوه! إنها القوة الإلهية من جديد. ألا نرى أن الخطاب هنا خطاب قوة وسلطة وليس خطاب ضعف وهوان؟
وماذا حدث في النهاية بعد أن غلبهم موسى:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى
آمن السحرة بموسى وبربهم ورب موسى. ولم يعودوا خائفين من تخريفات فرعون ولا من جبروته الزائف. واكتسبوا قوة من ثقته بالله تعالى فعندما هددهم فرعون بالصلب والقتل أجابوا بقلب واحد وثابت:
قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى
وبعد بضعة آيات ينتقل السياق في السورة الكريمة إلى قصة العجل. لنشاهد معاً تجسيدات القوة في الخطاب القرآني الذي جاء على لسان موسى:
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي
مفتاح الخطاب هنا القوة مجدداً فسيدنا موسى عليه السلام هو الآن الآمر الناهي ما دم يأمر وينهى بوحي من الله تعالى:
ألم يعدكم…. استكار ولوم وتعنيف وتعبير عن الغضب
أفطال عليكم العهد…..هذا كلام القوي المسيطر للضعيف
غضب من الله…..وعيد
فأخلفتم موعدي….الاستنكار واللوم والتعنيف
وتوجه إلى هارون أخيه توجه القوي المسيطر
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا
وفي ذلك استنكار ولوم
ثم توجه إلى السامري بالقوة والسيطرة ذاتها:
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا
وتتجلى القوة في “ثم لننسفنه في اليوم نسفا”. يا سامري أهذا إلهك؟ سوف أرمي بمن تدعي أنه إلهك في البحر وأنسفه نسفاً.. هذا هو التحدي المبني على القوة.
ثم يختتم الله تعالى هذا الشوط من سورة طه بالحقيقة الكونية الأولى:
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا
وفي هذه الخاتمة تذكير لرسوله الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن هذه القصة فيها دروس كثيرة وفيها توجيهات إلهية حول كيف ينبغي للرسول أن يتعامل مع المشركين إذ إن الرسول في موقف قوة والمشركون في موقف ضعف.
فالقوة تأتي من الثقة بالله والثقة بالله تعني التسليم لأمر الله.
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.